محكمة التحقيق الإسبانية
لربما كان الملك
فرديناند يعتقد أن هذه المحاكم لن تبلغ شأنا ما. لكنه سرعان ما اكتشف خطأه. فقد
اندلعت موجات الكراهية والبغض في مختلف أنحاء إسبانيا عندما سارع أعداء المعمدين
اليهود –من مسيحيين ويهود – إلى تقديم الاتهامات ضدهم. فباتت المحاكم ذريعة لتصفية
الحسابات الشخصية. فطالب القائمون على المحاكم زيادة عدد الموظفين. لكن كلما ازداد
عدد الموظفين، ازداد معه عدد القضايا المرفوعة إليهم. وانتهى الأمر بأن بات
فرديناند نفسه مقتنعاً أن قضية "اليهود السريين" هي قضية حقيقية.
في هذه
المرحلة الأولى، استخدم المسيحيون القدامى واليهود أنفسهم هذه المحاكم للنيل من
أعدائهم أو خصومهم المسيحيين الجدد (الكونفيرسوس / conversos). هذه المحاكم أقيمت
خصيصا لفحص صدق إيمان المسيحيين الجدد (المرتدين من اليهودية والإسلام) وعليه
فالمسيحيون القدامى لم يكن لديهم ما يخشونه منها ولا اليهود لأنهم كانوا خارج
صلاحية هذه المحاكم، حيث أن هدف لجان التحقيق –كما ذكرنا أعلاه- هو البحث عن الخراف
الضالة وإعادتها إلى الحظيرة الواحدة. يهود إسبانيا لم يكن لديهم ما يخشون من هذه
المحاكم.
في السنوات الأولى للمحاكم، كان ثمة الكثير من سوء الاستخدام
والفوضى. معظم المتهمين تمت تبرئتهم لكن ليس كلهم. فعمليات الإعدام حرقاً كانت
علنية وذائعة الصيت حتى إنها أخافت اليهود المعمدين. ففر الذين كان لديهم أعداء من
مدنهم قبل أن يتم تقديم شكاوى بحقهم. وما أن وصلت المحاكم إلى "اراغون"، حتى كانت
الهستريا قد بلغت مستويات عالية.
حاول البابا سكستوس الرابع وضع حد للأمر.
فكتب إلى أساقفة إسبانيا في 18 نيسان 1482 يقول:
«في أراغون
وفالنسيا ومايوركا وكاتالونيا باتت لجان التحقيق تعمل لا انطلاقا من الغيرة على
الإيمان القويم ورغبة في خلاص النفوس، بل سعياً وراء الثروة ورغد العيش. الكثير من
المؤمنين المخلصين تم الزج بهم في السجون وتعذيبهم واتهامهم بالهرطقة ومصادرة
ممتلكاتهم وتسليمهم إلى السلطات الدنيوية لإعدامهم بناء على شهادة أعدائهم
ومنافسيهم وعبيدهم وغيرهم من الأشخاص سيئي السمعة دون أدلة صادقة ودامغة كافية
لتجريمهم، وهذا الأمر قد أثار استياء ونفور الكثيرين».
أمر البابا
سكستوس الأساقفة بأخذ دور مباشر وفعال في هذه المحاكم حتى يضمنوا أن قوانين الكنيسة
العادلة هي التي تسيِّر الأمور. وأمر بأن يتم تعيين محامي دفاع قانوني ليمثل
المتهمين وأن يتمتعوا بحق رفع قضيتهم أمام روما. في العصور الوسطى (قبل القرن
الخامس عشر) كانت كلمة البابا ستلقى آذاناً صاغية وتطبيقاً سريعاً. لكن تلك الأيام
كانتْ قد ولَّت وانقضت.
أثارت هذه الرسالة حفيظة الملك فرديناند وكتب
جواباً إلى البابا سكستوس متهما إياه بأخذ الرشوة من "اليهود المعمدين /
الكونفرسوس" حيث قال:
«وصلت إلى آذاني أمور –لو ثبت صحتها –
فإنها تستحق الدهشة والاستغراب... لكننا لم نعطي هذه الإشاعات أهمية لأنها تبدو
أموراً لا يمكن لقداستك أن يقبلها خاصة وأنك ملتزم نحو المحاكم. لكن إذا تبين أن
بعض التنازلات قد تمّ بالفعل تقديمها تحت ضغوط من المعمدين اليهود الماكرين، فإنني
لا أعتزم أبداً جعلها تدخل حيز التنفيذ. لذلك احرص على ألا تجعل الأمور تتفاقم أكثر
منذ ذلك، اسحب أية تنازلات وثق بأننا سنولي القضية اهتمامنا
اللازم».
وضعت هذه الرسالة نهاية لدور البابا في محاكم التحقيق
الإسبانية. واستمرت منذ تلك اللحظة كذراع للملكية الإسبانية منفصلة تماما عن السلطة
الكنسية. لذلك من المستغرب جدا اليوم أن يتم وصف محاكم التحقيق الإسبانية بأنها
إحدى آثام الكنيسة الكاثوليكية الكبرى. فالكنيسة الكاثوليكية كمؤسسة لم يكن لها
أدنى مسؤولية تقريبا في هذه القضية اللهمّ سوى المصادقة الصوريّة على قرار الملك
تعيين أحد رجال الإكليروس لمنصب المحقق العام.
عام 1483، عين الملك فرديناند
الدومنيكاني توماس ده توركيمادا محققا عاماً على المحاكم في إسبانيا وأوكله مهمة
بناء نظام متكامل لفحص الأدلة وتحديد الإجراءات الواجب اتباعها وأيضا تأسيس فروع
للمحكمة في المدن الإسبانية الكبرى. صادق البابا سكستوس على هذا التعيين أملاً في
أن تساهم هذه الخطوة في السيطرة على الأمور. كان هذا المحقق العام معينا من الملك
وإلى الملك يقدم تقاريره، أي أن المحكمة باتت مدنية لا كنسية.
لكن المسألة
للأسف تفاقمت وذلك بسبب الفوضى العارمة السابقة وأيضاً بسبب حَيْد المحكمة حتى تلك
اللحظة عن المعايير الكنسية القويمة. عندما وصلت اللجنة إلى بلدة ما، كانت تعلن
"مرسوم رحمة" وهو عبارة عن فترة 30 يوماً مهلة يمكن لليهود السريين التقدم
والاعتراف بخطيئتهم بمحض إرادتهم والتوبة. وهي أيضا فترة للآخرين لكي يقدموا ما
لديهم من معلومات بشأن المسيحيين الذين يمارسون اليهودية سرا فيكشفونهم. كل من
تمَّت إدانته بعد انتهاء مدة المرسوم كان يتم إعدامه حرقاً.
وصول المحكمة
إلى البلدة بالنسبة لليهود المعمدين كانت مسألة غاية في الجديّة. فقد كان لديهم على
وجه العموم الكثير من الأعداء والكثير منهم مستعدون للشهادة زوراً، أو لربما كانت
ممارساتهم الثقافية والاجتماعية كافية لإدانتهم. لذلك كان الكثير من المعمدين الجدد
إما يفرون من المدينة أو يتقدمون للاعتراف بخطيئتهم وبذلك ينجون من التحقيق ومن
عواقبه الوخيمة.
ازدادت معارضة الإكليروس في الكنيسة لمحاكم التحقيق
الإسبانية وأشار الكثير من رجال الدين إلى أنّ حرق الهراطقة دون أن يكونوا قد تلقوا
تعاليم الدين المسيحي يتعارض مع جميع الممارسات المقبولة. فإن كان اليهود المعمدين
متهمين بأي شيء على الإطلاق، فتهمتهم هي الجهل لا الهرطقة المقصودة. الكثير من
الإكليروس في أعلى المراتب قدموا شكواهم لفرديناند. واستمرت المعارضة أيضا من روما.
وكتب خليفة سيكستوس، البابا إنوسنت الثالث مرتين للملك سائلا إياه أن يظهر المزيد
من الرحمة والعطف واللين مع اليهود المعمدين، لكن هذه الاعتراضات ذهب
سدى.
ومع ازدياد نشاط محاكم التحقيق، بات الكثيرون مقتنعين أن اليهود كانوا
يحاولون إقناع اليهود المعمدين بالعودة إلى حضن الديانة اليهودية. في نهاية المطاف،
حتى فردنياند وإيزابل اقتنعا بهذه النظرية رغم أنها لم تكن صحيحة. وبما أنهما
اعتبرا أن واجبهما الأول هو تجاه رعاياهم المسيحيين وحمايتهم من الخطر، فقد بدأوا
في العام 1482 بطرد اليهود من مناطق معينة كانت المشاكل فيها متفاقمة. واستمر الحال
على هذا المنوال إلى أن أصدر البلاط الملكي مرسوماً بتاريخ 31 آذار 1492 يقضي بطرد
جميع اليهود من إسبانيا.
توقع الملك والملكة أن يؤدي هذا المرسوم إلى
اعتناق اليهود للديانة المسيحية. وقد صدق حدسهم. فقد اعتنق الكثير منهم المسيحية
خاصة أولئك الذين كانوا يحتلون مراكز مرموقة في الدولة. كان عدد اليهود في ذلك
الوقت 80,000. اعتمد تقريباً نصفهم وحافظوا على ممتلكاتهم ومراكزهم. والبقية رحلت،
لكن الكثير من الذين رحلوا عادوا إلى إسبانيا واعتنقوا المسيحية واستعادوا
ممتلكاتهم.
كانت السنوات الخمسة عشرة الأولى من تولي توماس ده توركمادا
رئاسة محاكم التحقيق الإسبانية، هي الأكثر فتكاً. تم إحراق حوالي 2000 يهودي معمد.
لكن حوالي العام 1500 هدأت الهستيريا. ففي العام 1498، تم تعيين الكردينال فرنسيس
خيمينز ده سيسنيرسوس، أسقف توليدو، خلفاً لتوركمادا فعمل جاهداً من أجل إصلاح
المحكمة، وأزال "التفاح العفن" منها وأدخل التعديلات على الإجراءات
المتبعة.
بعد إصلاحها، لم تعد المحكمة تتعرض للانتقادات إلا النذر اليسير.
فقد تولى الأمور فيها رجال مثقفين ومتعلمين وبات النظام القضائي فيها مثالاً يحتذى
به بين الهيئات القضائية في أوروبا. خلال الأعوام الثلاثمائة وخمسين من عمر المحكمة
تم إعدام حوالي 4000 شخص حرقاً. أكثرهم تم إعدامهم في العشرين سنة الأولى فقط من
عمل المحكمة الفعلي.
أما بخصوص التعذيب في الزنزانات، فقد بينت مراجعة سجلات
هذه المحاكم أن التعذيب طال حوالي 2% فقط من القضايا. حيث كان المعذب يتعرض لربع
ساعة من التعذيب. وفي 1% من الحالات تعرض المتهم للتعذيب مرتين، ولم يتعرض أحد
بتاتا للتعذيب للمرة الثالثة.
لماذا سمعة المحكمة
الإسبانية سيئة؟
أين هم ملايين الذين احترقوا بنيران المحاكم؟! أين
أشكال الزنزانات الرهيبة والتعذيبات اللامحدودة وأنات المساجين؟! أين هم اليهود
الذين لاحقتهم الكنيسة الكاثوليكية بكل شراسة وبدون رحمة؟! إن كانت هذه الأمور كلها
محض خيال وادعاءات كاذبة، فما مصدرها وكيف نشأت؟!
في الواقع، ما أن حل منتصف
القرن السادس عشر، حتى كانت إسبانيا إحدى أغنى دول أوروبا وأعظمها قوة. ورأى الملك
فيليب الثالث نفسه المحامي الأمين عن الكنيسة الكاثوليكية، بعكس مناطق أوروبا
البروتستانتية مثل هولندا وألمانيا وإنكلترا. لكن هذه المناطق البروتستانتية كانت
تملك قوة كبيرة هي: "المطبعة". بعد أن انتصرت إسبانيا في الحرب وهزمت البروتستانت
في ساحة المعركة، شنَّ البروتستانت معركة دعائية قاسية باستخدام المطبعة وربحوها.
في هذه الفترة ولدت وترعرت فكرة "الأسطورة السوداء" الشهيرة وانتشرت. تمت طباعة
العديد من الكتب والمناشير التي تتهم الإمبراطورية الإسبانية بآثامها اللاإنسانية
وجرائمها الفظيعة. وتم وصف إسبانيا بأنها بلاد الظلام والجهل والشر. ورغم أن
الأكاديميون المعاصرون قد نبذوا فكرة "الأسطورة السوداء" واعتبروها نسج من الخيال،
لكنها ما زالت حية في أذهان الكثيرين إلى يومنا هذا.
استقت الدعاية
البروتستانتية من مناهل الأسطورة السوداء بكل حرية، ولكن كان لها أيضا مصادر أخرى.
فقد كان من واجب البروتستانتية تفسير الثغرة التي دامت 15 قرنا بين تأسيس المسيح
لكنيسته وبين تأسيس البروتستانتية. فكان الكاثوليك يشيرون إلى البروتستانتية بأنها
اخترعت ديانة جديدة لا تربطها صلة بكنيسة المسيح. وكان رد البروتستانت على هذا
الاعتراض بأن كنيستهم أسسها المسيح نفسه ولكنها اضطرت إلى الاختفاء والاستمرار سراً
بسبب الكنيسة الكاثوليكية. فكما أن الامبراطورية الرومانية اضطهدت المسيحيين
ودفعتهم إلى العيش في الدهاليز، كذلك خليفتها، الكنيسة الكاثوليكية الرومانية
استمرت في اضطهادهم طوال العصور الوسطى.
لكن الاعتراض المنطقي على أقوالهم
جان: لم يكن ثمة بروتستانت في العصور الوسطى!
هذا الاعتراض لم يُعْجِز
مؤسسي البروتستانتية الذين أعلنوا أنهم كانوا متخفين تحت قناع الهرطقات المختلفة
التي شاعت في القرون الوسطى (كانت هذه الهرطقات بالفعل متخفية وتعمل بسرية). عام
1556 أصدر متياس فلاتشوس إليريكوس كتابه بعنوان "كتالوج شهود الحقيقة" الذي أعلن
فيه أن الهراطقة القدامى (هراطقة العصور الوسطى) لم يكونوا هراطقة بل كانوا شهوداً
وورثة لكنيسة القرون الأولى الحقيقية التي اختبأت في الدهاليز ورسلها. وعليه تم
إخراج الكتاريين والفالديين والهسيين وغيرهم في ثوب جديد تحت ضوء نظرية الكنيسة
"المخفية". وعليه، لم تكن محاكم التحقيق الإسبانية سوى محاولة يائسة لتحطيم الكنيسة
الحقيقية المختبئة.
هذا الكتاب وغيره ساهم في تشويه سمعة محاكم التفتيش
الإسبانية.
إليكم هذه الشهادة من فم المؤرخ المعاصر "كامين" وهو من أشهر
مؤرخي محاكم التحقيق، وذلك في كتابه: «محاكم التحقيق في بدايات أوروبا المعاصرة:
دراسات حول المصادر والوسائل»:
«العدد الصغير نسبياً لعمليات الإعدام هو
دليل فعال ضد الصورة القاتمة التي رسمتها الأسطورة عن محاكم تحقيق متعطشة للدماء.
لا يمكن لشيء أن يمحو الأثر الذي خلفته السنوات العشرين الأولى من تاريخ المحكمة.
ولا يمكن أيضا التقليل من قيمة الاعتداءات الوحشية العرضية التي كانت تقوم بين
الفينة والأخرى. لكن من الواضح أن المحاكم في أغلب فترات وجودها كانت أبعد ما تكون
عن قوة الموت الساحقة. الأرقام التي ذكرناها حول المحاكم في فالنسيا وجاليسيا تشير
إلى أن نسبة الإعدام هي أقل من 2% بين المتهمين. وقد تم تقدير أنه من بين 19 محكمة
تم تحليل وثائقها، فإن نسبة الإعدام ما بين عامي 1540 و1700 هي 1.83%.
وعليه فإن
العدد يقارب حوالي ثلاثة حالات إعدام فقط في العام في كافة المملكة الإسبانية من
صقلية وحتى البيرو».
منقول عن ( ابن العرب )